فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
الاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها.
قال الفراء: المعنى ألم تخبر.
وقال الزجاج: ألم تعلم. وهو تعجيب له صلى الله عليه وسلم بما فعله الله {بأصحاب الفيل} الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوبة بالفعل الذي بعدها، ومعلقة لفعل الرؤية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون لكلّ من يصلح له.
والمعنى: قد علمت يا محمد، أو علم الناس الموجودون في عصرك، ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل، وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون؟ والفيل هو الحيوان المعروف، وجمعه أفيال، وفيول، وفيلة.
قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه فيال، وسيأتي ذكر قصة أصحاب الفيل إن شاء الله.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ} أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة، واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم، والهمزة للتقرير كأنه قيل: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرّة بالغير؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشًا بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي: أقاطيع يتبع بعضها بعضًا كالإبل المؤبلة.
قال أبو عبيدة: {أبابيل} جماعات في تفرقة، يقال جاءت الخيل أبابيل، أي: جماعات من هاهنا وهاهنا.
قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان، توبل على فلان أي: تعظم عليه، وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له.
وقال بعضهم: واحده أبول مثل عجول.
وقال بعضهم: أبيل، قال الواحدي: ولم نر أحدا يجعل لها واحدًا.
قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها: أبالة مشدّدًا.
وحكى الفرّاء أيضًا: أبالة بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: كانت طيرًا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها.
قال قتادة: هي: طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا يصيب شيئًا إلاّ هشمه.
وقيل: كانت طيرًا خضرًا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقيل: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكف الكلاب.
وقيل: في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير، كما في قول الشاعر:
تراهم إلى الداعي سرعًا كأنهم ** أبابيل طير تحت دجن مسجن

وتستعملها في غير الطير كقول الآخر:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ** أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل

{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} الجملة في محلّ نصب صفة لطير.
قرأ الجمهور: {ترميهم} بالفوقية.
وقرأ أبو حنيفة، وأبو معمر، وعيسى، وطلحة بالتحتية، واسم الجمع يذكر ويؤنث.
وقيل: الضمير في القراءة الثانية لله عزّ وجلّ.
قال الزجاج: {مّن سِجّيلٍ} أي: مما كتب عليهم العذاب به، مشتقًا من السجل.
قال في الصحاح قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم.
قال عبد الرحمن بن أبزى: {مّن سِجّيلٍ} من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لامًا، ومنه قول ابن مقبل:
ضربًا تواصت به الأبطال سجيلا

وإنما هو سجينًا.
قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجحدري، وكان الحجر كالحمصة، وفوق العدسة، وقد قدّمنا الكلام في سجيل في سورة هود.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} أي: جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدّواب فرمت به من أسفل، شبه تقطع أوصالهم بتفرّق أجزائه.
وقيل المعنى: أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدّواب وبقي منه بقايا، أو أكلت حبه، فبقي بدون حبه.
والعصف جمع عصفة، وعصافة، وعصيفة، وقد قدّمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن، فارجع إليه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح، فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، وكانوا لا يقدّمون فيلهم إلاّ تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودًا عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلاّ أخذته الحكة، فكان لا يحكّ الإنسان منهم جلده إلاّ تساقط لحمه.
وأخرج ابن المنذر، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقي عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت، فنأتيك بكل شيء؟ فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلاّ أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع، فأبى إلاّ أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} فجعل الفيل يعجّ عجًا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}.
وقصة أصحاب الفيل مبسوطة مطوّلة في كتب التاريخ والسير، فلا نطوّل بذكرها.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} قال: حجارة مثل البندق، وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء، ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة، فلم تعد عسكرهم.
وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء، والضحاك عنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة، فأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل بريد مجتمعة، لها خراطيم تحمل حصاة في منقارها، وحصاتين في رجليها، ترسل واحدة على رأس الرجل، فيسيل لحمه ودمه ويبقى عظامًا خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عنه أيضًا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} يقول: كالتبن.
وأخرج ابن إسحاق في السيرة، والواقديّ، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل، وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.
وأخرج الواقديّ نحوه عن أسماء بنت أبي بكر.
وأخرج أبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفيل.
وأخرج ابن إسحاق، وأبو نعيم، والبيهقي عن قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الفيل:
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.
قال أبو السعود: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية، أي: ألم تعلم علمًا رصينًا متاخمًا للمشاهدة والعيان، باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه، بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن ذلك من الإرهاصات؛ لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنأثره.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} بيان إجمالي لما فعل بهم، أي: ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا، وتدميرهم أشد تدمير.
قال الرازي: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. إن قيل: لِششم سماهُ كيدًا وأمرهُ كان ظاهرًا، فإنهُ كان يصرح أنهُ يهدم البيت؟.
قلنا: نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة، منهم ومن بلدهم، إلى نفسه وإلى بلدته {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي: طوائف متفرقة، يتبع بعضها بعضًا من نواح شتى، وأبابيل جمع لا واحد له، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء. وزعم أبو جعفر الرؤاسي- وكان ثقة- أنه سمع واحدها إبالة، بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب، استعير لجماعة الطير. وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها أبول، وعن آخرين: أبيل، سماعًا كما أثره ابن جرير. والتنكير في {طَيْرًا} إما للتحقير، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر، أو للتفخيم، كأنه يقول: وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل، أفاده الرازي.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} أي: من طين متحجر.
وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعني بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.
قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجهًا في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} قال ابن جرير: كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرق آراب أبدانهم بها، بتفرق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع.
قال الشهاب: ولم يذكر الروث لهُجتنه، فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.
وقال أبو مسلم: العصف التين، لقوله: {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12]، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولًا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى: كزرع قد أكل حبهُ وبقي تبنه، والتقدير كعصف مأكول الحب، كما يقال فلان حسن الوجه، فأجرى {مَّأْكُولٍ} على العصف من أجل أنه أكل حبه؛ لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضًا أن معنى {مَّأْكُولٍ} مما يؤكل، يعني تأكله الدواب، يقال لكل ما يصلح للأكل وهو مأكول، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك، أشار له الرازي.
تنبيهات:
الأول: كان السبب الذي من أجله حلَّت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل، مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل على بيت الله الحرام لتخريبه. وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية، حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث؛ فيقولون: ولد عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك. وتفصيل نبئها ما أثره ابن هشام: أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي، وكان ذا دين في النصرانية، فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها، ثم كتب للنجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها- أي: أحدث فيها- ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب غليه بمكة، لما سمع قولك: أصرف إليها حج العرب؛ غضب فجاء فقعد فيها، أي: أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقًا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق- وكان أبرهة رجلًا حليمًا- ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرص نفيل ابن حبيب الخثعميّ في قبيلي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرًا، فأتى به، فلما همَّ بقتله، قال له نفيل: أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلة خثعم: شهران وناهس، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله، حتى إذا مرَّ بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف، فقالوا له: أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم- واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة- فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمَّس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك: فَرجمت قبره العرب- فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس- فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمَّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي في دمائكم.
فإن هو لم يرد حربي فأتني به، فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها؟ فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة؛ هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام- أو كما قال- فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقًا حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له: يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًا وعشيًا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسًا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة: يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال: فأذن له أبرهة.
قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟.
قال عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل وإن للبيت ربًا سيمنعهُ.
قال: وما كان ليمتنع مني؟ قال: أنت وذاك. وكان، فيما يزعم أهل العلم، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة- يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هزيل- فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعُف الجبال والشعاب؛ تخوفًا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هُمّ أن العبد يمـ ** ـنع رَحْلَهُ فامنع حلالكْ

لا يغلبنّ صَليبُهُم ** ومحالهُمُ عَدْوًا مِحالك

إن كنت تاركهم وقبـ ** ـلتَنَا فأمر ما بد لك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيَّأ فيله وعبَّى جيشه، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمين، فلمَّا وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه، فقال له: ابرُك، أو: ارجع راشدًا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل: وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم، فضربوا رأسه ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها- أي: أدموه- ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمين فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجههوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله تعالى طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالبُ ** والأشرم المغلوبُ ليس الغالبْ

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنمُلةً أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تَمُثُّ- أي: تسيل- قيحًا ودمًا حتى، قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب، ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مما يَعُدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} السورة.
ثم قال ابن إسحاق: فلما ردّ الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا وقالوا: أهل الله؛ قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعارًا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما ردّ عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.
وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق؛ لأنه أحسن اقتصاصًا وأبلغ سبكًا، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها، فرحمه الله ورضي عنه.
التنبيه.
الثاني:
إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل واشتهرت به؛ لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب، فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ؛ وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام، فإذا غضبوا على محارب أسروه، أو وزير أوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه، وقواعد البنيان فيهدمها؛ فيكون أمضى من معاول وفؤوس، وأعظم رعبًا ورهبة في النفوس، وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه، فأعمل فيه نابه، ولف عليه خرطومه وشاله، ومثَّل به تمثيلًا كان أشد بطشًا وتنكيلًا. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.
الثالث: قال القاشانيّ: قصة أصحاب الفيل مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه، وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة، وكشف له حجاب الحكمة، عرف لمية أمثال هذه.
قال: وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.
الرابع: قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق، ولا منتحل بمحق، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا، وأظهرها برهانًا، وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل، أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه على مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملًا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يومًا من الفيل، فكانت آيته في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا؛ فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملًا ووليدًا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسًا للنبوة وتعظيمًا للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكًا للحج.
فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكًا، ولم يمنع الحَجَّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكًا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟
قيل: فعل الحَجاج كان بعد استقرار الدِّين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول «قد أنذر بهدمها» فصار الهدم آية ًبعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمها في الحالين، والله تعالى اعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفًا وتعظيمًا، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلًا في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعًا لكل باغ ودافعًا لكل طاغ. وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل، منهم حكيم بن حزام، وحاطب بن عبد العزى، ونوفل بن معاوية؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة: منها ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، انتهى.
الخامس: ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل: روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي نهبط به على قريش، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء- أي: حرنت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، قال ابن الأثير في (النهاية): هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم، وردَّ رأسه راجعًا من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية، فلم تتقدم ولم تدخل الحرم؛ لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين. وفي الصحيحين أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب». اهـ.